محمد صالح
بالأمس ودعت صيدا الدكتور غسان حمود .. صاحب الطموح اللامتناهي الى درجة تمكّنه من تأسيس وبناء هذا الصرح الطبي "مستشفى حمود الجامعي" في هذه المدينة واوصله بعبقريته الفذة وحنكته وعلاقاته الواسعة الى هذه الدرجة العلمية في عالم الطبابة الاستشفائية , يوازي بمستواه صروح طبية معروفة على صعيد لبنان, وسهر عليه طوال اكثر من خمسة عقود من عمره وجعله من كبريات المستشفيات من النواحي التقنية والعلمية المتطورة والاقسام الجراحية التي ادخلها الى صيدا والجنوب ولناحية الجهاز الطبي والتمريضي العامل في المستشفى او لجهة المباني العائدة لها .
ويمكن القول انه بفضل هذه المستشفى وغيرها من المراكز الطبية المعروفة في هذه المدينه فإن عاصمة الجنوب صيدا قد وضعت على الخريطة الاستشفائية ليس في لبنان فقط انما على صعيد البلاد العربية ايضا .
ولكل نجاح في اي ميدان من الميادين حكاية تروى , تبدأ بوجود ارادة وطموح وهدف .. هذه المسائل مجتمعة توفرت بشخص غسان حمود الطبيب العائد من المانيا الى صيدا واضعا نصب عينيه مشروعه وحلمه الراسخ في ذهنه وهو تأسيس "مستشفى" .. وبداية المشوار انطلقت سنة 1966.. وكان له ما اراد وشيئا فشيئا تحول الحلم الى صرح طبي على النحو الذي هو عليه اليوم.
هذا الرجل الذي تخصص في الجراحة النسائية , لكنه طوال مسيرته الطبية في مستشفاه الذي انطلق متواضعا جدا في احد احياء صيدا قد دواى وطبب جراح الالاف من ابناء المدينة والجنوب والشوف ومن معظم المناطق اللبنانية وفي مختلف المراحل التي مرت على لبنان وخاصة على الجنوب وصيدا واهمها حقبة الاعتداءات الاسرائيلية على الجنوب والمخيمات وصيدا معا طوال العقود الماضية وصولا الى الاجتياح الاسرائيلي وما بعده.
وحكاية هذا الرجل تبدا منذ مطلع شبابه عندما انتسب الى "حركة القوميين العرب" في عز نشوء النهضة القومية في البلاد العربية ومن خلالها بنى شبكة علاقات وصداقة شخصية وعائلية مع شخصيات لبنانية وفلسطينية وعربية منهم من وصل الى الحكم في بلاده على غرار ابن مدينته الشهيد رفيق الحريري الذي اصبح رئيسا لحكومة لبنان وغيره من الشخصيات والقيادات المعروفة .
والدكتور حمود استثمر بشكل جيد كل علاقاته اللبنانية والفلسطينية والعربية وحتى الدولية من اجل انجاح مشروعه الخاص وكان له ما اراد وخير دليل على ذلك علاقاته الشخصية الجيدة جدا مع رفيق الحريري صاحب النفوذ الواسع ليس في لبنان فحسب بل في دول الخليج العربي وفي العالم..
كما نجح الدكتور حمود في بناء علاقات رفيعة مع معظم وزراء الصحة في لبنان وسخّر كل ذلك في ضخ ورفد المستشفى بكل الدعم المطلوب.
وتمكن الدكتور حمود من بناء علاقات شخصية مبنية على معرفة لصيقة بمعظم قادة "الحركة الوطنية اللبنانية" باحزابها واجنحتها وانتماءاتها المحلية والعربية و"الاممية" منذ السبيعنات وبينها من تربطه بهم علاقة قربى ومصاهرة .
كذلك الامر مع معظم قادة العمل الفلسطيني التاريخيين ومع كل الفصائل وفي طليعتهم الزعيم الراحل ياسر عرفات لدرجة ان "مستشفى حمود" في صيدا تحول مع الوقت الى مستشفى لاستقبال معظم الجرحى والمرضى الفلسطينيين بشكل يومي ...
كما ان مستشفى حمود كان يستقبل معظم جرحى اهالي الجنوب من جراء الاعتداءات الاسرائيلية اليومية المتكررة على مدى عقود طويلة من الزمن ... كل ذلك استثمره الدكتور حمود في خدمة بناء هذا الصرح الطبي الجامعي.
لا شك انها حكاية رجل عبقري كانت له ايضا وايضا في كل تقلبات الموجات السياسية وما اكثرها في لبنان وقفات تصبح فيها "مستشفى حمود" محطة ومركز جذب.. وحتى خلال الفترة التي اعقبت انسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلي من صيدا العام 1985 تحولت مستشفى حمود في جانب منها الى مركز اجتماعات ولقاءات على مختلف المستويات ويكون للدكتور حمود دورا بارزا في ذلك ... كما كانت المستشفى في وقت من الاوقات من تلك المرحلة محطة للاعلاميين .. كل ذلك بدعم وتوجيه من الرئيس رفيق الحريري .
طبعا" من دون نسيان الدور السياسي الذي حاول الدكتور غسان حمود ان يلعبه في لبنان من خلال محاولته دخول هذا المعترك بتشجيع ودعم ايضا من الرئيس الحريري مرة من خلال ترشحه الى الانتخابات النيابية ومرة من خلال طرحه كوزير للصحة.. لكن في كلا الحالتين لم يصل الدكتور حمود الى مبتغاه في هذا الميدان واخفق مفضّلا العودة الى ركنه الاساسي اي الى صرحه الطبي وردائه الابيض .
وبالرغم من كل النجاحات الشخصية الباهرة التي حقهها هذا الرجل الطموح.. يبقى في كتاب حياته مسائل اعترضته واوقفت مسيرته ووضعت حدا لطموحه منها ما هو خارج عن ارادته كمرضه المبكر الذي اقعده وابعده ليس فقط عن السهر على المستشفى وإدارة اوضاعها والاطلاع على شجونها وشؤونها.. لا بل ساهم بشكل او بآخر بإبعاده عن الشأن العام بكل نواحيه . ومنها ما عصف بلبنان من ازمات ماليه انعكست على هذا المستشفى بشكل سلبي وكبير اكثر من غيره .. ولعل "الادارة العائلية" لم تفلح في وضع حد لخروج هذا الصرح الطبي من تلك الازمات التي المّت به.
وكما لكل حلم جميل بداية ونهاية.. لمستشفى حمود بداية مع العبقري الدكتور غسان حمود صاحب الحلم والطموح.. والنهاية بإنتقال ملكية هذا الصرح كاملة الى مجلس إدارة جديد يديرها بشكل جيد وما زالت تؤدي خدماتها الطبية تحت المسمى الذي خطّه صاحبها "مستشفى حمود الجامعي".
وبغياب الدكتور غسان حمود وخروجه الاخير من ابواب المستشفى في موكب حزين تطوى آخر الصفحات في كتاب حكاية هذا الرجل في هذا الصرح الذي بناه في صيدا على مدى عقود من الزمن حجرا فوق حجر واوصله الى ما اصبح عليه بالسهر والعرق والجد والكد والجهد والتعب ..