محمد صالح
غيب الموت المحامي الاستاذ مصطفى صالح عن عمر ناهز العقد التاسع ..الرجل الذي تطلع منذ نشاته الى المعرفة بكل ابعادها ,خرج من بيئة شعبية مناضلة متوسطة الحال في حارة صيدا , الى آفاق واسعة تلميذا وصولا الى الشهادة المتوسطة , بعدها نال البكالوريا باللغة الفرنسية ثم مدرسا, وانتسب الى الجامعة العربية كي يساعد نفسه ودرس الحقوق وتخرج منها متفوقا ..
في الثلاثينات والاربعينات والخمسينات من القرن الماضي كان الاهل يعانون من شظف العيش وقلة الحيلة ومن ظروف حياة صعبة للغاية في كل شيء .. ومع ذلك عمل الراحل مصطفى صالح "ابو هاني" بكد وجد وثابر , دأبه في كل مفاصل حياته حتى وصل الى ما وصل اليه.
في عز شبابه انتفض على الواقع المهيمن , رافضا سلطة "البيك" وسطوة الاقطاع.. اخرج نفسه من عباءة تلك السلطة هو وجمع من اترابه , تطلع الى الحرية .. الى العروبة بعنوانها الرحب الواسع الذي يحتضن الجميع , وكانت "القومية العربية" بكل ابعادها رايته.
عايش مرحلة "ارفع راسك يا اخي" في عز نهوضها وكان الرئيس جمال عبد الناصر قدوته, انتسب الى "حركة القوميين العرب" منذ البدايات عاشقا افكارها ومبادئها بكل التفاصيل , اعتمدها كنهج وسلوك لحياته الشخصية في السياسة الحزبية والعامة .
وكان شعار "ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" سبيله للانتساب الى العمل من اجل تحرير فلسطين .. والاقتراب من مجموعات العمل الفدائي الراديكالي في ذاك الوقت ..هذه القضية التي كانت عنوانا وهمّا بالنسبة له ولابناء جيله الذي آمن بتلك المبادىء من العروبيين والقوميين العرب وبعثيين وغيرهم من لبنانيين في حارة صيدا , وصيدا ولبنان وفي مخيمات الشتات الفلسطيني .
سيرة الراحل مصطفى صالح "ابو هاني" طويلة ولا يكفي للحديث عنها مقال , وسردها يحتاج ربما الى كتاب , , ومن عايش تلك الحقبه والمرحلة من المخضرمين يعلم تمام العلم عن ماذا اتحدث.. ومع ذلك لا بد من الاشاره الى تلك المرحلة في هذه السطور, والى الدور الكبير الذي لعبه "ابو هاني" مع كثر جدا من "رفاق" تلك المرحلة ,منهم من قضى نحبه, واطال الله في عمر الاخرين من صيداويين وفلسطينيين ومن الجنوب ولبنان والبلاد العربية, بينهم من وصل الى سدة القيادة والرئاسة في بلادهم وفي الفصائل الفلسطينية والاحزاب اللبنانية .. جميعهم عايشوا في صيدا مرحلة الشهيد معروف سعد ومرحلة صعود نجم عبد الناصر في اوج تألقه .. وكان الراحل ابو هاني رائدا في محيطه وموجها ومحركا يشهد له كل من عايشه.
الكل يجمع بان مصطفى صالح يشكل فصلا من تاريخ تلك الحقبه ليس وحده .. بل كل من تطلع الى نفس الافكار وتبناها من ابناء جيله وهم كثر ..ونحن الذين تربينا في بيت جدي "ابو علي" في حارة صيدا وكنا صغارا , في وعينا صورة معلقة وسط الجدار تجمع الزعيم جمال عبد الناصر والراحل ابو هاني في دمشق في عيد الوحدة العربية بين مصر وسوريا وآخرين بينهم المختار حسين الزين والراحل الاستاذ خضر صالح ..وما زلنا نتذكر بعض ملامح الشخصيات والاسماء التي كانت تفد الى ذاك البيت العتيق المتواضع وتلتقي مع بعضها البعض وتغادر وتتفرق كل في اتجاه حاملة مهمة ما..
ولا بد من الاشارة الى الدور الذي لعبته هذه المجموعة في "ثورة 1958" في لبنان ومسالة نقل السلاح من سوريا الى لبنان في ذاك الوقت .
عام 1966 شغل الراحل مصطفى صالح منصب اول رئيس بلدية في حارة صيدا وفاز بالتزكية هو ورفيقه حسين الزين الذي حلّ مختارا بالتزكية ايضا وقد وصلا الى ذلك بعز مرحلة القومية العربية بعد ان قطعا الطريق على العائلية والوراثة .. وفي عهده عرفت حارة صيدا اول بنية تحتية من صرف صحي وانارة شوارع وغيره.
عندما اندلعت الحرب الاهلية في لبنان واقفلت قصور العدل وفقدت مهنة المحاماة دورها .. لم يجد مصطفى صالح غضاضة في التوجه الى "الغابون" في افريقيا ومعه شريكه حياته السيدة عزيزة بك الفضل واولادهما حيث عمل هناك دون اي تذمر او تأفف , وبقي متصالحا مع نفسه ومع الافكار التي تبناها وترسخت في اعماقه من حيث نظافة الكف والاستقامة..سجلّه الشخصي ناصع كبياض قلبه في مسيرته المهنية وفي حياته الشخصية والعامة .
في مهنة المحاماة كان الراحل ابو هاني يعتبر من المحامين اللامعين وكثر من زملائه يشهدون بانه قدوة ونموذج .. هادىء الطباع دمث الاخلاق محدثا لبقا مرافعا شجاعا تشهد له اقواس المحكام مدافعا عن الحق في اي قضية يتبناها ..تاركًا أثرًا طيبًا بين كل من عرفه.
كما كان للراحل دور هام في المؤسسات الاجتماعية والرعائية والانسانية وتبوأ المسوؤلية الاولى في بعضها.
رحمك الله يا ابو هاني واسكنك فسيح جناته واعان رفيقة درب العمر الطويل بحلوه ومره السيدة عزيزة والعائلة المهندس هاني وعلي وهلا .. والهمكم نعمة الصبر وتحمل لوعة وحسرة الفراق ..