
كتبت لينا فخر الدين في "الاخبار" : على كرسي بلاستيكي، جلس وليد جنبلاط متفيّئاً ظل «سروة» عملاقة. ينقّل عينيه في كلّ مكان، بين الحضور والمسؤولين عن التنظيم، من دون أن ينبس ببنت شفّة. يبادل الزائرين السّلام على عجل قبل أن يعود إلى مكانه وهو يتابع التّفاصيل. عندما يشعر بالزحمة في باحة قصر المختارة، يقترب من المنظّمين. لا كلام ولا إشارة، إلا أنّ اقترابه منزعجاً يُبدّل المشهد لدقائق.
مع ذلك، لم تُفلح نظرات «البيك» في مزيد من التنظيم الذي شاركت فيه، إلى جانب المسؤولين عن الأمن والتنظيم، زوجته نورا جنبلاط والنائب وائل أبو فاعور، إذ إنّ كثافة المتدفّقين إلى الباحة للمشاركة في ذكرى اغتيال كمال جنبلاط أعلى من قدرة المكان على الاستيعاب، ومن قدرة المنظّمين على التنظيم.
محبّو «المُعلّم» أتوا من كل حدب وصوب. تجمّعت الوفود عند حواجز أقيمت على مفرق بقعاتا ثم عند مفرق الجديدة، قبل أن يستقلّوا باصات مخصّصة لنقلهم إلى قلب المختارة. فيما اختار آخرون التوجّه سيراً على الأقدام عشرات الكيلومترات، حاملين علم الحزب التقدمي الاشتراكي. ولأنّ الأعداد كانت بالآلاف في الذكرى الشعبيّة الأخيرة لإحياء ذكرى اغتيال كمال جنبلاط، كان مئات الشبّان من الأمن والتنظيم يتوزّعون عند أجناب الطرقات الجبليّة المؤدية إلى المختارة لتنظيم السيْر وإرشاد المشاركين. تجمّعت الحشود الشعبيّة حول القصر، فيما غصّت الباحة بالشخصيات السياسيّة والدبلوماسيّة.
«أبو تيمور» يُردّد الحاضرون، فيما «أبو تيمور» في عالمٍ آخر. يستمع إلى رسائل صوتيّة بُثّت كشهادات حيّة عن كمال جنبلاط. صوت صديقه، رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، يزيده تركيزاً وتمعّناً، وهو ما يعبّر عنه الحضور بالمزيد من التصفيق بعد انتهاء الكلمة.
ترتفع أُغنية «موطني»، يسرح جنبلاط بعيداً في الجبال المحيطة المُطلة على القصر. يسترجع أثر «المعلّم»، فتنهمر الدّموع من عينيه. هنا، منذ 48 عاماً، كان ابن الـ28 عاماً لا يزال طريّ العود وبعيداً عن السياسة، حينما وصل إلى المختارة ليعرف أنّ والده وقع في كمين مسلّح. في الباحة نفسها، أصدر «البيك» أمره الأوّل للمرافقين في مُحاولة لإنقاذ والده ونقله إلى مركزٍ طبي. ولما باءت المُحاولات بالفشل، حمل الكفن والطائفة والإرث معاً، ليصير زعيمها الأوّل.
الشاب العشريني كان يُدرك مشقّة تحمّل «الإمارة الجنبلاطيّة» على كتفيه، وأن يكون زعيماً على جمهور ورثه عن مفكرٍ سياسيّ وفيلسوفٍ ثوري، وعلى منزل الزعامة الدرزية الذي شُيّد قبل قرون. لذلك، تعامل مع جريمة الاغتيال بعقلٍ سياسي بارد انتزع عنه العواطف، وتمكّن من ضبط نفسه وهو يلتقي قاتله، مقابل حماية طائفته وزعامته، قبل أن يتلقّى خبر اعتقاله منذ أيام قليلة.
على مدى نصف قرن، نجح «أبو تيمور» في المهمّة، وحمى أسوار الجبل من خصومه. وهو اليوم يحمل الهمّ نفسه، والمهمّة نفسها: الدروز.
ما يشغل بال «البيك» هو أبناء جلدته في جبل العرب الذين يحلم بعضهم بالإمارة الدّرزيّة من جديد، وهو ما يعرف جنبلاط أنّه سيكون تفتيتاً للطائفة وانسلاخاً عن قوميتها وعروبيّتها.
لذلك، خصّص جزءاً من كلمته أمس إلى «بني معروف» في جبل العرب، قائلاً: «حافظوا على إرثكم الفكري والسياسي والنضالي الذي أرساه سلطان باشا الأطرش وشكيب أرسلان وكمال جنبلاط. حافظوا على وطنيتكم وهويتكم العربية وتاريخكم النضالي المشترك مع العروبيين والسوريين في مواجهة الانتداب والاستعمار. حافظوا على تراثكم الإسلامي واحذروا الاختراق الصهيوني واستخدام البعض منكم تحت شعار تحالف الأقليّات وهو ما عارضه كمال جنبلاط واستشهد رفضاً لهذا المشروع». وأضاف: «إن الزيارات ذات الطابع الديني لا تُلغي احتلال أرض فلسطين».
وأعلن جنبلاط ختم تقليد إحياء ذكرى والده «بعدما أشرقت شمس الحريّة وسقط نظام القهر والاستبداد»، لافتاً إلى أنّ «الحزب والمختارة يتطلّعان إلى رحلة جديدةٍ من النضال والتحدي والتمسك بالاشتراكيّة الأكثر إنسانية»، واعداً بتنظيم ورشة فكرية تنظيمية «لرفاق تيمور وتيمور». كما شدّد على «أهمية تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي واستكمال ترسيم الحدود وإعادة إعمار الجنوب وباقي المناطق المتضرّرة»، داعياً إلى «إعادة بناء العلاقات اللبنانية - السورية على قواعد جديدة وترسيم الحدود براً وبحراً، والتمسك بالحقوق الفلسطينية المشروعة وفي مقدّمها حل الدولتين والتمسّك باتفاق الهدنة».
ودّ بين سامي وتيمور
على المقاعد المُخصّصة لآل جنبلاط، ومعهم شيخ عقل الطائفة الدّرزية الشيخ سامي المُنى، جلس رئيس مجلس إدارة قناة «LBC» بيار الضاهر، بعدما صار واحداً من العائلة، يستقبل الوفود ويراقب الحضور في الذكرى 48 لاغتيال الزعيم كمال جنبلاط.
كذلك حضر النائب سامي الجميّل على رأس وفدٍ كتائبي قبل أكثر من ساعة على انطلاق الاحتفال. الحفاوة التي لقيها الجميّل من قبل جماهير «الاشتراكي» أثناء دخوله القصر، انسحبت على مقعده المُلاصق للنائب تيمور جنبلاط، وتبادلهما الحديث معظم الوقت. وعلى بُعد أمتارٍ قليلة منهما، جلس ممثل حزب الله محمود قماطي، فيما وصل وفد حزب القوات اللبنانيّة برئاسة النائب جورج عدوان بالتزامن مع بدء الاحتفال. كذلك حضر النائب أسامة سعد ورئيس الحزب الشيوعي حنّا غريب، وقد تقصّد المنظّمون استقبالهما بحرارة.
أمّا رئيس الحكومة نوّاف سلام، فقد كان موكبه يشقّ طريقه نحو المختارة، فيما كان المشاركون في طريق العودة بعد انتهاء الاحتفال!
البخاري يقضي ثلث ساعة في المختارة
قبل دقائق من بدء الاحتفال، دخل السفير السعودي، وليد البخاري بعباءةٍ بيضاء إلى باحة قصر المختارة، ومعه مجموعة كبيرة من العناصر الأمنيّين، جلس بعضهم في الصفوف الأماميّة ليواكبوه عن كثب. وفور انتهاء كلمة النائب السابق وليد جنبلاط، انسحب البخاري أدراجه ليكون آخر الدّاخلين من قصر المختارة وأوّل الخارجين منه. فيما عمل فريق أمن السفارة على إفساح الطريق أمامه عنوةً ليستقلّ سيارته التي انتظرته عند البوابة الحديدية للقصر.
الصورة : شدّد جنبلاط على تحرير الجنوب وإعادة الإعمار (نقلا عن الأخبار)