
نص للسياسي اللبناني فواز طرابلسي نقلا عن "الاخبار" :
ثمة ثلاث عمليات ذهنية مرتبطة بالماضي. أودّ أن أضيف الأمنيزيا إلى الذاكرة والنسيان. والأمنيزيا هي الاسم الطبي لفقدان الذاكرة، يعيّن حالات فشل في عملية التذكّر – على غرار «الفشل الكلوي» مثلاً - أو حالات من قمع الذاكرة. يسير الفشل والقمع وفقاً لآليتَي الاستبدال والنقل المعروفتين في علم النفس.
تطاول عملية الاستبدال الأحداثَ المولّدة للصدمة (التروما)، فتحلّ محلها أحداث ثانوية بديلة. أما عملية النقل، فتتولى نقل المسؤولية عن الحدث الصادم – وتحميل الذنب - من طرف إلى طرف آخر.
ثمة مقابلة ساذجة تضع النسيان والذاكرة واحدهما في مواجهة الآخر. في بحث ثري بعنوان «النسيان»، يذكّرنا مارك أوجيه بالعكس: النسيان إن هو إلا «مكون من مكونَي الذاكرة ذاتها».
ذلك أن المرء لا يتذكر كل شيء وهو ليس ينسى كل شيء. هذا يعني أن عملية النسيان متواصلة مع عملية التذكّر. ولعل الأهم هو قول أوجيه إن قمع الذاكرة (الأمنيزيا) الأحرى أنه عملية قطع للوشائج والأواصر الواصلة بين الذكريات. (أوجيه، 2004: 20-25).
لماذا علينا أن نتذكر حرباً أهلية؟ الجواب المبسّط هو: لكي نتفادى حرباً قادمة. على أنّ الجواب يستدعي تعييناً أولاً، ما الذي يتعيّن علينا أن نتذكره؟ وثانياً، ما الذي علينا أن ننساه؟ على افتراض أنه لا توجد ذاكرة مطلقة وأن كل عملية تذكّر هي في الآن ذاته عملية نسيان، أو عملية تناسٍ.
أسئلة ضد الأمنيزيا
يصطدم شاغل التذكّر في لبنان بعقبة كبرى هي الأمنيزيا الرسمية المفروضة بعد الحرب.
وقد تغذت من مزاج شعبي عام يميل إلى تناسي أهوال الحرب، فوظّفته في خدمة خطاب كامل عن الماضي. يقمع هذا الخطاب أبسط الأسئلة ويقدّم لها الأجوبة الاستبدالية:
لماذا قامت الحرب؟
هل كان يمكن تفادي الحرب؟
أما السؤال الأول، فيستدعي رواية، بل روايات استبدالية. ترد فيها الحرب وكأنها حدث واحد – الحرب – وليس سياقاً زمنياً. وهذا ما يسهّل تحويل الحرب إلى نازلة وجائحة، أو إلى قدر محتّم. بالتالي إن أقرب سببية يمكنها أن تفسّرها هي إما غضب الربّ وإما المؤامرات.
لبّت فروض الأمنيزيا الرسمية الحاجةَ إلى إعادة إعمار نظام لبنان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على الأسس ذاتها التي كان يقوم عليها قبل الحرب، أي على نظام طوائفي ليبرالي مركّب.
فجرى تدعيم الأول بالاحتشاد الديني، وجرى تحويل الثاني من الليبرالية إلى النيوليبرالية. هكذا جرى تقديم عملية الإعمار، ومحورها إعمار وسط مدينة بيروت، على أنها عودة إلى «عهد ذهبي» من التعايش الطوائفي والازدهار الاقتصادي ساد قبل الحرب. لذا كان يجب قتل السؤال الساذج المنطقي: إذا كان وضع ما قبل الحرب رائعاً وذهبياً إلى هذا الحد، فلماذا اندلعت الحرب أصلاً؟
استكمل قانون العفو عملية «غسل الدماء»، فمنعت المحاسبة على جرائم الحرب. ثم تم تحريم المساءلة السياسية والأخلاقية. لكن قانون العفو استثنى دزينةً من السياسيين والشخصيات الدينية من «رجال الدولة». فإذا ارتكبتَ جريمة
بحق المجتمع، أنت بريء. وإذا ارتكبت جريمة بحق رجال الدولة، فأنتَ لا تزال مُتهماً وعرضة للملاحقة والعقاب
الأمنيزيا لها جوابها: الحرب هي «حرب الآخرين» أو «حرب من أجل الآخرين» على الأرض اللبنانية. فيبرأ اللبنانيون بالجملة من أي ذنب أو مسؤولية عن 15 سنة من الاقتتال والقتل والتدمير، ويعفون فرادى وجماعات من المحاسبة والمساءلة.
«الآخرون» هم من يقع عليهم اللوم، ولك أن تختار «الآخر» الذي يناسب اعتصابَك السياسي-الطوائفي-المذهبي ونوعَ «كبش المحرقة» الذي تختار تحميله الذنب. ذنبك.
استكمل قانون العفو عملية «غسل الدماء» هذه - على غرار غسل الأموال -، فمنع المحاسبة والعقاب الجزائيين على جرائم الحرب. بل انسحب، في الممارسة، إلى تحريم المساءلة السياسية والأخلاقية. والأفدح من ذلك بكثير، أن قانون العفو استثنى من أحكامه دزينةً من السياسيين والشخصيات الدينية من «رجال الدولة».
ارتقت الجرائم بحق هؤلاء إلى مصاف «جرائم ضد أمن الدولة»، وهي لا تزال عرضة للملاحقة والمحاكمة والعقاب / ببساطة، إذا ارتكبتَ جريمةً بحق المجتمع، فأنت بريء. وإذا ارتكبتَ جرميةً بحق رجال الدولة، فأنتَ لا تزال متهماً وعرضة للملاحقة والمحاكمة والعقاب.
أما إذا أنت قتلتَ بضع عشرات أو مئات من المدنيين الأبرياء في مجزرة من مجازر الحرب، فيبرّئك قانون العفو من فعلتك. أما إذا أنت قتلتَ، أو اشتركتَ في محاولة لقتل رجل سياسة أو شخصية دينية، فأنت لا تزال عرضةً للملاحقة والمحاكمة والعقاب.
ألا يعني ذلك، في هذا الانقلاب الفاضح، السفالة لثنائية القاتل/القتيل، أن «رجال الدولة» - أي رجال الطبقة الحاكمة والشخصيات الدينية ممن قضوا في تلك الحرب – هم وحدهم ضحايا هذه الحرب، فلا عفو عن الجرائم المرتكبة بحقهم؟ وهل من إهانة أقسى وأبشع وأوقح لذكرى المئة ألف ضحية وعشرات ألوف من المعاقين وألوف المخطوفين، من هذا الاستثناء؟
الحق في المعرفة
ما الذي يجب أن نتذكّره وما الذي يجب أن ننساه في الحروب الأهلية؟
قبل الإجابة، لا تسير عملية قمع الذاكرة على ما تشاء الأمنيزيا دوماً. أبرز عقبة انتصبت في وجهها هي الذكرى الحيّة لألوف من مفقودي الحروب الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
إنهم الأحياء ـ الأموات يوخزون ضمائر الأحياء بواسطة هذا الالتباس الفاجع. وبفضل قبضة من نساء ورجال، من أهالي المفقودين، أمكن الإبقاء على هذه الذكرى المشتركة حيّة.
وقد انتزعَت نضالات أهالي المفقودين أخيراً مكسباً كبيراً على طريق تحقيق حقهم في معرفة مصير ذويهم، إذ فرضوا على الدولة تسليمهم ملفات التحقيق في شكاوى الفقد، وها هم يتهيّؤون لحفظ الحمض النووي للأهل وإثارة موضوع نبش المقابر الجماعية.
«حقنا نعرف» هو الشعار الذي أطلقه أهالي المفقودين، وهو حق مواطنة قبل أي شيء آخر. من جهة ثانية، شكّل نضال أهالي المفقودين على امتداد العقود الأربعة الأخيرة محوراً وملهماً لنضالات وتحركات لا متناهية تحت عنوان «تنذكر [الحرب] لما تنعاد». وهو شعار فائق الصلاحية ولكن بشرط توسيع نطاق الذاكرة. فلكي لا تُعاد الحرب، ليس يكفي تذكر أهوالها.
ما يمنع تكرار الحرب وهو أيضاً وخصوصاً التعرّف إلى الأسباب والعوالم والمسارات والدروس. فـ«حقنا [أن] نعرف» هو حق – وواجب- الإجابة عن الأسئلة المقموعة المذكورة أعلاه. وهذا يعني إعادة وصل العلاقات والوشائج والأواصر بين الأحداث والأسباب والنتائج والأوقات والعبر، التي مزّقتها الأمنيزيا. وما إن تؤخذ المسافة اللازمة تجاه الحرب، تتحول عملية التذكّر والتذكير إلى روايات للحرب بما هي ماضٍ، بدلاً من الحالة المَرَضيّة السائدة حالياً حيث الحرب تُعاش ويعاد تمثيلها باستمرار، فردياً وجماعياً، بما هي حاضر شاخص يتثاءب. أو بما هي «حرب مستمرة» لم تتوقف في عام 1998 ولا تنتهي فصولاً.
وهنا يقع دور النسيان تحديداً. أن نتذكّر الأسباب والمسارات والدروس وأن ننسى ونتناسى أعمال العنف. ولكن لا هذا ولا ذاك يحول دون المحاسبة والمساءلة، ولا هو يحول دون النضال من أجل نظام اقتصادي اجتماعي سياسي أخلاقي يمنع تكرار الاقتتال الأهلي. مع أن هذا فصل بذاته من فصول التفكير في الذكرى.
إننا مدينون لأرنست رينان، المفكر القومي الفرنسي، بمعادلة مثيرة: تُبنى الأمم على ذكريات مشتركة ونسيانات مشتركة. لنقل إن فظائع الحرب وجرائمها، ومنوعات العنف فيها، الجسدية منها والطقوسية والرمزية، «خيرٌ لها أن تُنسى». وهو التعبير ذاته الذي استخدمه أرنست رينان بصدد مجزرة «سان بارتيليمي»، التي ارتُكبت في فرنسا بحق البروتستانت خلال الحروب الدينية بين بروتستانت وكاثوليك في القرن السادس عشر (رينان، ما الأمة؟ 1992: 41-42)
من هنا اقتراح هذه المعادلة: واجب التذكّر وضرورة النسيان.
ولكنني أكرر: نستطيع أن ننسى فقط ما نتذكره. و«ذاكرة للنسيان» هو عنوان يوميات محمود درويش عن الحصار الإسرائيلي لبيروت في صيف عام 1982، ومن ضمنها مراجعة الشاعر النقدية لتجربة الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان. يقول العنوان كل ما يعنينا هنا: إنك لا تستطيع أن تنسى إلا ما تتذكره، أي ما قد أنقذته من فشل الذاكرة أو قمعها بواسطة الأمنيزيا.
بعبارة أُخرى، النسيان فعل إرادي. أي إننا نستطيع أن نتناسى. لا تشكو لغتنا العربية حيلة في الاشتقاق!
تترافق ضرورة التناسي مع خيار آخر: نغفر أو لا نغفر.
يقول مثل عربي قديم إن الإنسان سُمّي إنساناً لأنه ناسٍ. يمكن للنسيان أن يكون بنّاءً وأن يكون إنسانياً.
* تعيد «الأخبار» نشر نص السياسي فواز طرابلسي، وهو نشره في ذكرى الحرب على مواقع التواصل الاجتماعي