
كتبت "الاخبار" التالي : مع بدء العدّ العكسي لانطلاق الانتخابات البلدية في أيار المقبل، تعود الأنظار إلى الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع، حيث يستعد حزب الله لخوض معركة انتخابية جديدة، تُعد أول اختبار شعبي مباشر له بعد الحرب الأخيرة مع العدو الإسرائيلي، والتي تذرّع بها الكثير من الأفرقاء في الداخل الذين زعموا أن المقاومة أضعفت لبنان، وراهنوا في الوقت نفسه على انكسارها إثر هذه الحرب. الاستحقاق البلدي المنتظر يشكّل بارومتراً حقيقياً لوزن الحزب في بيئته ومحيطه اليوم.
معركة تثبيت الشرعية الشعبية
الانتخابات البلدية المقبلة لم تأتِ كاستحقاق إداري عادي، بل كأول مناسبة لاختبار قدرة الحزب على إدارة قاعدته الشعبية ووجوده بعد خسارته قياداته الأبرز. ومنذ مطلع شباط الماضي، كثّف الحزب تحضيراته التنظيمية، حيث شهدت المناطق الجنوبية والبقاعية والضاحية سلسلة لقاءات تنسيقية مشتركة بين لجان حزب الله، وحليفه حركة أمل، وذلك لإعادة توزيع الحصص وضمان أكبر قدر من المقاعد في المجالس البلدية والاختيارية.
وعليه، شدّد رئيس لجنة الدفاع والداخلية، النائب جهاد الصمد، لـ«الأخبار»، على «عدم استثناء أيّ منطقة من الانتخابات، خصوصاً قرى الشريط الحدودي، حتى يفهم العدو أن المقاومة الوطنية موجودة ويعبّر عنها أبناء الجنوب بمختلف الأشكال».
تؤكد الوقائع أن حزب الله لا يزال يحتفظ بوزنه السياسي، بل ويتهيأ لتوسيع حضوره داخل البلديات والمجالس المحلية، في مشهد أربك خصومه وأعاد تثبيت قواعد اللعبة السياسية على أُسس جديدة.
لوائح موحّدة واستعدادات مبكرة
وفي سياق متصل، أكّد رئيس الهيئة التنفيذية في حركة أمل، مصطفى فوعاني، بعد اجتماع لكلّ الهيئات التابعة لمكتب الشؤون البلدية والاختيارية المركزي، «خوض كل من حزب الله والحركة الانتخابات بلوائح موحّدة تطبيقاً للاتفاق الموقّع بين القيادتين بشخص الرئيس نبيه بري والأمين العام للحزب الشهيد السيد حسن نصرالله».
الموقف الذي أطلقه رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، أبرَزَ مدى جهوزية الحزب في خوض هذا الاستحقاق، حيث أكّد أن «المسألة ليست مجرد انتخابات بلدية، بل مسألة وفاء لدماء الشهداء»، وذلك خلال لقاء له مع الهيئات النسائية.
وأضاف رعد، أن «الانتخابات البلدية ليست مجرد مناسبة ديمقراطية، بل هي فعل مقاومة بحد ذاته في ظل كل محاولات كسر إرادتنا عبر الاغتيال أو الحصار أو الحروب النفسية».
الجدير ذكره أن التماسك داخل التحالف لم يأتِ نتيجة ظروف سياسية طارئة، بل يعكس اتجاهاً ثابتاً حافَظَ فيه الحزب على موقعه كطرف أساسي، لم تنجح الضربة الإسرائيلية في كسره، لا تنظيمياً ولا شعبياً ولا حتى سياسياً، بل بدا أن الغياب الجسدي للسيد نصرالله أفسح المجال لظهور قيادة جماعية أكملت الدور بإتقان، وأظهرت هدوءاً وصلابة واضحة في التعاطي مع المتغيّرات.
على المقلب الآخر، لم تُخفِ جهات سياسية لبنانية طموحاتها في استغلال غياب نصرالله لضرب التوازنات السياسية التي رسّخها الحزب طوال العقدين الماضيين.
في هذا السياق، برزت أصوات في المشهد السياسي اللبناني، خصوصاً من القوى التي تُصنَّف ضمن «المعارضة السيادية» أو التي تحمل أجندات متقاطعة مع الرؤية الغربية والخليجية، رأت أن هذه الضربة قد تشكّل فرصة لتقليم أظْفار حزب الله، ليس فقط عسكرياً بل سياسياً أيضاً.
في طليعة هؤلاء، رئيس حزب القوّات اللبنانية سمير جعجع الذي كان السبّاق في اعتماد هذا الخطاب، إذ اعتبر في تصريح تلفزيوني في تشرين الأول الماضي، أن «اغتيال نصرالله أعاد لبنان إلى لحظة تأسيسيّة جديدة، حزب الله بلا رأس، ومن الطبيعي أن تتقلّص قدراته السياسية تدريجياً». وأضاف أن «وقف إطلاق النار خطوة أولى نحو نزع سلاح حزب الله، وتحرير القرار اللبناني من هيمنته». كما صدرت إشارات مماثلة من قيادات في حزب الكتائب وبعض الشخصيات المستقلة المنضوية تحت لواء «اللقاء السيادي».
كذلك، رأى أعضاء من كتلة «تجدد»، أن هذه المرحلة هي «فرصة ذهبية لإنهاء الحالة العسكرية لحزب الله، وإعادته إلى حجمه السياسي الطبيعي كأي حزب لبناني آخر»، مستفيدةً من الضغط الأميركي والغربي الذي رافق توقيع الاتفاق. ويراهن هؤلاء على تثبيت معادلة داخلية جديدة يُقصى فيها الحزب تدريجياً من دوائر القرار، سواء في الحكومة أو في إدارة الملفات الإستراتيجية كالتفاوض حول الترسيم أو أمن الجنوب.
في المقابل، بقيت هذه المراهنات محكومة بواقع ميداني صلب أثبته حزب الله، سواء في قدرته على الصمود خلال الحرب، أو في التوازن الذي فرضه لاحقاً رغم التزامه بوقف النار، ما أبقى موقعه السياسي بعيداً عن السيناريوهات التي راهن عليها خصومه. فالحزب لم يكتفِ بالحفاظ على حضوره في المجالس النيابية والتنسيق الحكومي، بل استخدم الانتخابات البلدية كمنصة لإعادة تأكيد شرعيته في بيئته، ما أفشل مساعي الأطراف المناوئة لإقصائه أو تحجيمه.
ومن اللافت أن حزب الله لم ينكفئ إلى داخل بيئته، بل وسّع رقعة حركته السياسية من خلال تفعيل علاقاته مع أركان الدولة، وذلك عبر لقاءاته مع رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، وكذلك التنسيق مع رئيس الحكومة نواف سلام، في ملفات التعيينات الإدارية والملفات الاقتصادية، في مؤشر واضح إلى أنه حاضر في ملفات الدولة، بعيداً عن خطاب العزلة السياسية الذي رُوّج له عقب اغتيال نصرالله.
بخلاف الصورة التي حاول خصوم الحزب رسمها عقب اغتيال أمينه العام، أثبتت الأشهر الماضية أن حزب الله يعمل بثبات وسرعة على تجاوز تداعيات مرحلة الارتباك الأولى. وتأتي الانتخابات البلدية المقبلة لتكون المحطة الأوضح لترسيخ هذه المساعي، حيث يخوض الحزب المعركة ليس كحالة حزبية معزولة، بل كمكوّن أساسي في التركيبة اللبنانية، قادر على الدفاع عن موقعه السياسي والاجتماعي والإنمائي، حتى بعد أخطر ضربة أمنية تلقّاها في تاريخه.
الصورة : (رويترز)