
من فلسفة القوة إلى هندسة النظام العالمي الجديد: كيف تحوّلت الأوهام التوسعية إلى أداة تفاوضية، ولماذا قد يصبح النموذج الإسرائيلي وصفة مُعاد تصديرها عبر العالم.
لطالما كان الفكر الهامشي ظاهرة يمكن احتواؤها والسيطرة عليها، إذ يبقى تأثيره محدوداً ولا يرقى إلى تهديد التوازنات الكبرى. لكن التحدي الحقيقي يبدأ حين يتحوّل الهامش إلى متن، وتغدو أفكاره المتمردة هي التيارات السائدة التي تحدد مسار العلاقات الدولية.
في هذا السياق، برز في الغرب تيار سياسي–فلسفي هامشي أطلق على نفسه اسم “النهضة المظلمة”. وهو تيار يعيد النظر في إرث عصر النهضة الأوروبي لا بوصفه لحظة نهضة وتنوير، بل باعتباره جذر أزمات الحضارة الغربية.
يقوم هذا التيار على رفض شامل لقيم الديمقراطية، والمساواة، وحقوق الإنسان، ويدعو إلى شطب مبدأ تكافؤ الفرص من أنظمة الحكم، واستبداله بسيطرة النخب التكنولوجية (التكنوقراط) على العالم. ويذهب أبعد من ذلك بالتأكيد على أن الدول والأمم ليست متساوية، وبالتالي، فمن “الطبيعي” – حسب منطقه – أن تفرض القوى الكبرى إرادتها على الدول الأضعف، وتحدد لها كيف تتصرف، وما يجوز وما لا يجوز.
ورغم أن هذه الأفكار كانت، في بداياتها، هامشية وأقرب إلى الطروحات الفلسفية الراديكالية، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تسللها التدريجي إلى قلب صناعة القرار في الغرب. ومع تزايد النزعات الشعبوية، وصعود سياسات القوة العارية، لم تعد تلك الأفكار حبيسة النخب الفكرية، بل باتت تمثل توجهاً ضمنياً في العلاقات الدولية.
“إسرائيل الكبرى”: من الخطاب الأيديولوجي إلى التكتيك السياسي
في الشرق الأوسط، تتقاطع هذه الرؤية مع خطاب الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي أعادت إحياء فكرة “إسرائيل الكبرى”. فرغم أن كثيرين يرونها وهماً سياسياً لا يمكن تحقيقه، إلا أن مجرد طرحها يعكس تحوّلاً في الذهنية الإسرائيلية نحو استدعاء خطاب ما قبل قيام الدولة في 1948، حيث كانت الأحلام التوسعية تسبق أي التزامات بالسلام أو التعايش.
واللافت أن إسرائيل تتعامل مع اتفاقيات السلام والتطبيع العربي–الإسرائيلي وكأنها محطات تكتيكية على طريق مشروع أكبر، لا غاية نهائية بحد ذاتها.
التساؤل المطروح هنا هو: كيف سيتعامل “وسطاء وضامنو” عملية السلام – أي القوى الكبرى – مع هذا الانزياح الإسرائيلي نحو خطاب توسعي؟ والأكثر إثارة: ماذا لو استخدمت الدول العربية، في مواجهة هذا الخطاب، نفس اللغة والمفاهيم التي كانت إسرائيل تستخدمها قبل إعلان قيامها؟
من واقع التجربة، يبدو أن إسرائيل تملك حرية قول ما تشاء وحلم ما تريد، في حين أن أي خطاب عربي مشابه يُنظر إليه كتهديد، بل وكخط أحمر غير مسموح بتجاوزه.
وعليه، يمكن القول إن إثارة ملف “إسرائيل الكبرى” ليست سوى أداة سياسية لصرف الأنظار عن مشاريع أكثر عملية وخطورة، خاصة في الضفة الغربية وغزة. فحين تعلن إسرائيل عن “تنازل” بشأن هذه الخطط الكبرى، يُقدَّم الأمر وكأنه خطوة نحو السلام، بينما في الحقيقة يكون العرب قد تلقوا “صفعة سياسية” جديدة تحت غطاء التنازلات.
البعد الدولي وصعود فكر القوة التراتبية
ما يجري في الخطاب الإسرائيلي لا يمكن فصله عن المناخ الدولي الجديد، حيث باتت العلاقات بين الدول تُدار على أساس موازين القوة الصلبة، لا على أساس القواعد أو القيم المشتركة التي روّجت لها الليبرالية الغربية لعقود.
في هذا الإطار، يعكس مفهوم “النهضة المظلمة” التحوّل العالمي نحو إعادة شرعنة اللامساواة بين الدول، بحيث تُمنح القوى الكبرى “حقاً مكتسباً” في فرض إرادتها على الدول الأضعف، تماماً كما يُطرح في ملفات أخرى مثل أوكرانيا، أو نزاعات بحر الصين الجنوبي، أو حتى سياسات المناخ والاقتصاد العالمي.
لقد أفرزت الحروب الأخيرة، والعقوبات الاقتصادية، والنزاعات التجارية، واقعاً جديداً أعاد إلى الواجهة منطق “القوة تصنع الحق”. وفي ظل هذا المناخ، تتصرف إسرائيل وكأنها تستند إلى غطاء دولي ضمني يسمح لها بطرح رؤى توسعية، طالما أن هذه الرؤى لا تتعارض جوهرياً مع مصالح القوى الكبرى، أو طالما أن هذه القوى ترى في إسرائيل أداة وظيفية تخدم توازناتها في الشرق الأوسط.
لكن الخطر يكمن في أن هذا النمط من التفكير يفتح الباب لشرعنة سلوكيات مشابهة في مناطق أخرى من العالم، حيث يمكن لدول صاعدة أو إقليمية أن تستنسخ “النموذج الإسرائيلي” القائم على خلق أمر واقع بالقوة، ثم تحويله إلى ورقة تفاوضية.
وهكذا، يصبح “التنازل” المعلن ليس سوى تثبيت لمكاسب انتُزعت على الأرض، في حين يُقدَّم أمام الرأي العام الدولي كخطوة نحو السلام.
خلاصة
إن ربط خطاب “إسرائيل الكبرى” بظاهرة “النهضة المظلمة” يكشف عن تحوّل خطير في النظام الدولي: من نظام يسعى – على الأقل نظرياً – إلى ترسيخ المساواة القانونية والسياسية بين الدول، إلى نظام يعيد إنتاج منطق الهيمنة الإمبراطورية، لكن بأدوات تكنولوجية، واقتصادية، ودبلوماسية أكثر تعقيداً. وفي قلب هذا التحول، تتصرف إسرائيل ليس فقط كدولة ذات مشروع توسعي، بل كنموذج مصغر لما قد يصبح عليه شكل السياسة العالمية إذا ترسخت فلسفة القوة التراتبية كإطار ناظم للعلاقات بين الأمم.
د.قاسم سعد