
كتب جوني منير في "الجمهورية" التالي : صحيحٌ أنّ ملف «حصر السلاح» بيد الدولة اللبنانية هو محور الإنشغال الرسمي والسياسي والإعلامي في لبنان، إلّا أنّ الإستحقاق النيابي بدأ يأخذ حيزاً لا بأس به من الحركة القائمة. فعدا عن أنّ الفاصل الزمني عن فتح صناديق الإقتراع في أيار المقبل لم يعد بعيداً، إلّا أنّ هنالك عوامل عدة تفرض على القوى السياسية مقاربة هذا الملف بكثير من التركيز والحذر في آن معاً.
مما لا شك فيه أنّ البنية التحتية للنظام السياسي اللبناني تتركّز في المجلس النيابي. فالشعب اللبناني مصدر السلطات يعبّر عن إرادته من خلال إقتراعه في انتخابات يحميها الدستور. ومن هذا المجلس النيابي تنبثق السلطة التنفيذية بموجب الوكالة الشعبية التي يملكها ولفترة محددة، والتي تُعتبر ولاية المجلس. والمقصود بهذا التذكير، الإشارة إلى أنّ الوكالة الزمنية التي يمنحها الشعب غير قابلة للتعديل إلّا في حال الظروف القاهرة، والتي لا يجوز الإجتهاد في تفسير معناها. ذلك أنّ ثمة همساً حول وجود «رغبة» لدى البعض لتأجيل الإستحقاق النيابي لمدة سنة، وتحت أعذار مختلفة.
وفي الواقع، تكتسب الإنتخابات النيابية المقبلة أهمية إستثنائية لأسباب عدة. فهو الإستحقاق النيابي الأول في الحقبة السياسية الجديدة، والتي بدأها لبنان مع الإنتخابات الرئاسية ومن ثم تشكيل الحكومة. وهي انتخابات من المفترض أن تحاكي التوازنات الجديدة، وأن تمنح الحقبة الجديدة أرضاً صلبة تمكّنها من التحرّك بأريحية أكبر، وسط التغييرات الهائلة التي طرأت على الواقعين اللبناني والإقليمي. وهكذا جاءت الإنتخابات الأولى في حقبة السيطرة السورية الكاملة على لبنان في العام 1992. يومها تمّ تكريس معادلة نيابية جديدة داخل مجلس النواب لمصلحة سوريا وعلى أنقاض توازنات الجمهورية الأولى، ولكن مع إبقاء مساحة نيابية ضيّقة نسبياً محسوبة على السعودية. فهذا المجلس جاء من بوابة «إتفاق الطائف» الذي أُفرغ من مضمونه بعد إغتيال الرئيس رينية معوض. وعبر هذه المساحة الضيّقة تسلّل الرئيس رفيق الحريري ليصبح رئيس حكومات الجمهورية الثانية، وسط تعايش صعب ومساكنة خطرة بين دمشق والرياض «تحت قبة البرلمان اللبناني»، كانت الأرجحية الدائمة فيها لدمشق.
ومع اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، فشلت السعودية عبر فريق 14 آذار في ملء الفراغ الحاصل، لينجح بعدها فريق 8 آذار ومن خلفه سوريا وإيران في الإمساك بالقرار اللبناني إثر «اتفاق الدوحة»، ولتبدأ بعده مرحلة جديدة. إلّا أنّه وبعد انفجار الوضع في سوريا، وانشغال دمشق باللهيب الداخلي، استطاعت طهران ومن خلال «حزب الله» من إحكام نفوذها على كل القرار اللبناني. يومها وصل حليفها إلى رئاسة الجمهورية، وتلا ذلك انتخابات نيابية في العام 2018 منحت الغالبية لفريق 8 آذار، ما جعل عدداً من المسؤولين الإيرانيين يصرّحون بأنّ إيران وصلت إلى شاطئ البحر المتوسط. أما الآن وإثر نتائج الحرب في لبنان وسوريا، فإنّ مرحلة جديدة بدأت وبتوازنات مختلفة. ومن هنا أهمية الإنتخابات النيابية المقبلة.
صحيحٌ أنّ القوى السياسية اللبنانية ستسعى في هذه الإنتخابات لتوسيع أحجامها بغية تحقيق أهدافها المحلية والذاتية، إلّا أنّ النظرة الأوسع تبقى حول ترسيخ معادلة إقليمية جديدة للمجلس النيابي، تحاكي المعادلة العريضة في المنطقة. أي تكريس تراجع النفوذ الإيراني لمصلحة تعزيز النفوذ السعودي. وللمفارقة، فإنّ انتخابات نيابية ستجري أيضاً في البلدان المحيطة أو تلك التي عُرفت سابقاً بـ«الهلال الشيعي» أو دول المحور الإيراني. ففي سوريا انتخابات قريبة، وهي الأولى بعد سقوط نظام الأسد. وفي العراق انتخابات أيضاً في تشرين المقبل، وحيث النقاش صاخب حول مشروع قانون «الحشد الشعبي».
ولذلك لا بدّ من قراءة الإستحقاق النيابي بأبعاده الحقيقية، ما بين من يسعى للحدّ قدر الإمكان من تراجع التأثير الإيراني على مجلس النواب وبين الموجة المؤيّدة السعودية. ويتردّد أنّ المتحالف مع إيران يعمل لتمتين حصته النيابية هذه المرّة. والمقصود بذلك أن يعمد لإيصال نواب محسوبين عليه مباشرة في المناطق التي يستطيع ذلك، بينما كان في السابق يعتمد على مساعدة الحلفاء. فهو يرى أنّ هؤلاء الحلفاء لم يساندوه كلياً كما كان يتمنى. وربما قد يكون أقل تشدّداً في الدوائر التي لديه فيها قدرة تأثير محدودة، ولكن بشرط حصول تفاهم سياسي متين مع الذين سيدعمونهم، أو المبادلة مع دوائر أخرى، لكن الدعم «المجاني» لم يعد قائماً. طبعاً تبقى الأولوية لإقفال المساحة الشيعية بكاملها، ومن ثم لتطعيم الكتلة بنواب من الطوائف الأخرى. وقد يكون هذا الفريق يطمح لأن يحظى بالكتلة النيابية الأكبر، وصولاً إلى الثلث النيابي القادر على التحكّم بمسار اللعبة، خصوصاً مع وجود حليف على رأس المجلس.
أما الفريق الآخر والذي يعاني من تعدّد مكوناته، وفي بعض الأحيان من تناقض مصالح أعضائه، فالتوجّه العام هو بالسعي وللمرّة الأولى إلى إقفال المساحة السنّية أمام أي خروقات. والعمل ثانياً على تعزيز الحصة المسيحية إلى الحدّ الأقصى ولو عبر تعدّد القوى، كما المساحة الدرزية. والتحضّر ثالثاً لاختراق المساحة الشيعية مع وجود فرصة حقيقية في موقعين أساسيين. وثمة عوائق عدة بعضها على المستوى المسيحي، لناحية الحسابات الخاصة والمتعارضة المتعلقة بالإستحقاق الرئاسي المقبل، وبعضها الآخر على مستوى الساحة السنّية، خصوصاً تلك المتعلقة بسعد الحريري والذي لا تزال علاقته مقطوعة كلياً مع السعودية، وأيضاً على مستوى الساحة الدرزية وتداعيات ما حصل في السويداء على المزاج الشعبي.
وخلف كل ذلك برزت همسات تتحدث عن إمكانية تأجيل الإنتخابات لسنة واحدة. خصوم «حزب الله» يتهمونه بأنّه يسعى لذلك في إطار رهانه على كسب مزيد من الوقت علّ الظروف تتغيّر. أضف إلى ذلك أنّ «حزب الله» يريد تحقيق تغييرات على مستوى البنية السياسية للنظام القائم لمصلحته. فعدا عمّا كان تردّد سابقاً عن نية بإحداث موقع نائب رئيس الجمهورية، إضافة إلى قيادة الجيش من خلال نظرية المثالثة، برزت في الأسابيع الماضية فكرة جديدة ومختلفة، وعلى أساس أنّ المطالبات والأفكار السابقة لم تعد تتناسب والنتائج الميدانية التي استجدت. وفحوى هذه الفكرة بحصول انتخابات على أساس العدد، بحيث أنّ كل مجموعة تنتخب نوابها على أساس المثالثة. وأنّ هذا النقاش قد يحتاج إلى بعض الوقت لإنضاجه.
في المقابل، فإنّ خصوم «القوات اللبنانية» يتهمونها بأنّها تدفع سراً إلى خلق ظروف تؤدي إلى تأجيل الإستحقاق النيابي لسنة إضافية لسببين أساسيين: الأول، إنّ عامل الوقت يلعب لمصلحة توجّهها السياسي، وهو ما سيزيد من مساحتها الشعبية كلما تقدّم الوقت، والثاني، أن يصبح موعد الإستحقاق الرئاسي المقبل من ضمن ولاية المجلس المقبل، وذلك تجنباً لأي تطورات غير محسوبة لمجلس يُنتخب عام 2030، وتصبح معها التوازنات مختلفة.
لكن وبعيداً من هذه الهمسات، فإنّ الثابت أنّ القرار الدولي هو مع إجراء هذه الإنتخابات في موعدها مهما حصل، وعلى أساس إعادة إلزام اللبنانيين باحترام المهل الدستورية لكل الإستحقاقات ونسيان «ثقافة» التمديد والفراغ، وهو الأسلوب الذي أدخلته مرحلة السيطرة السورية على لبنان بهدف تدمير ركائزه الديموقراطية.
والثابت أيضاً أنّ رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ومعه رئيس الحكومة نواف سلام، يتمسكان بإتمام الإستحقاق النيابي في مواعيده الدستورية. فلن يقبل عون بأن يحصل في بداية عهده تأجيل لاستحقاق بهذه الأهمية، وهو الذي دفع بقوة لإتمام الإستحقاق البلدي في موعده على رغم من تعقيداته وظروفه الصعبة.
تبقى ملاحظتان أساسيتان: الأولى حول ما إذا كان الرئيس عون سيتجاوب مع دعوات كثر إلى تأليف لوائح تخصه، خصوصاً أنّ المساحات الفارغة على المستوى الشعبي المسيحي كبيرة لأسباب كثيرة، وأنّه لا يجوز تركها. كما أنّ الأحداث أثبتت دائماً أنّ رئيس الجمهورية في حاجة لكتلة نيابية تواكبه وتتولّى ترجمة سياسته على المستوى النيابي.
ولكن حتى الآن لا يزال رئيس الجمهورية رافضاً لذلك، وهو ما يظهر بوضوح من خلال سلوكه الخالي من أي توجّه من هذا القبيل. لكن هذا لن يمنع عدداً من الشخصيات من خوض الإنتخابات تحت شعار دعم «خطاب القَسَم» وتطبيقه.
وقد باشر بالفعل عدد من هؤلاء اجتماعاتهم تحضيراً لوضع خطة لخوض هذا الإستحقاق، إضافة الى تشكيل لوائح في مختلف الدوائر.
أما الملاحظة الثانية، فهي المتعلقة بالخطاب الإنتخابي، والذي سيكون حاداً لا بل مشتعلاً، بهدف شدّ العصب إلى الحدّ الأقصى وبلا سقوف. وهنا تبرز مخاطر اشتعال مشاعر الناس وغرائزهم واحتمال حصول صدامات دموية عفوية. وفي الواقع فإنّ اللغة المستخدمة في وسائل التواصل لا تبدو مقبولة، وهي تنتهك مراراً الأخلاق والمقدسات، ما يجعل الأمور قابلة للإشتعال بسرعة.
وكان من الأجدى وضع قانون جديد للإعلام وفق المعايير العصرية، وعلى ضوء التطور الكبير الذي طرأ على الوسائل الإعلامية، بحيث يتمّ وضع إطار آمن، ويبقي في الوقت عينه حرّية التعبير قائمة في حدّها الأقصى والآمن، تماماً كما القوانين الموضوعة والمعمول بها في البلدان الديموقراطية، أكان في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية. وليس عيباً أن يتمّ الإستناد إلى التجارب القانونية لهذه الدول، إذ لا يمكن التغافل عن هذه المهمّة، شرط حماية حرّية التعبير المسؤولة وتكريسها.
قد يشكّل أيلول إنطلاقة قوية للحركة الإنتخابية، خصوصاً أنّ القرار الكبير يدفع في اتجاه حصول الإنتخابات لا تأجيلها. فإذا كانت سوريا ستخوض هذه الإنتخابات على رغم من الظروف المأسوية، والعراق يتحضّر لانتخابات حساسة ودقيقة، فهذا يعني أنّ الإنتخابات في لبنان ستحصل وفي مواعيدها الدستورية.
الصورة : (نقلا عن الجمهورية)